بسم الله الرحمن الرحيم ..
في الحقيقة أن معظم الحديث المتداول عن الجودة في التربية والتعليم حاليا، يندرج ضمن إطار البحث عن مواصفات البيئة التعليمية، ولا يتطرق إلا لماما لجودة الخدمة التعليمية في حد ذاتها (فضلا عن جودة المنتج). والسؤال هنا هل أصبح تطبيق الجودة في التعليم مطلباً ضرورياً؟ وهل يكفي أن تكون الجودة أحد عناصر البيئة التعليمية أو بعضها في مدرسة ما حائزة على شهادة «الجودة»، لكي نتحدث عن «جودة» التربية في المدارس المعنية؟ وهل يعني ذلك أنه كلما زاد عدد العناصر حاملة دمغة «الجودة» كلما ارتفعت نسبة «جودة» التربية والتعليم في المدارس المذكورة؟ وهل تحتسب درجة «الجودة» تراكميا (جمع حسابي) بمعنى أن «الجودة» العامة تساوي مجموع درجات «الجودة» الممنوحة للمكونات الجزئية، أم أنها (الجودة) تخضع لقانون: «الكل هو دائما أكثر من مجموع أجزائه». لابد من لفت الانتباه هنا إلى أن المطالبة بالاهتمام بجودة الخدمة التربوية والتعليمية يفرض ألا تتخذ لها من جودة الخدمات الاستهلاكية الأخرى إطارا مرجعيا لها. وتحذيرا من الوقوع في فخ التطوير المظهري الذي أغرى بعضهم.
إن التعامل مع مفهوم الخدمة التعليمية والتربوية كما لو كانت خدمة استهلاكية عادية لتحول الحديث عن الجودة إلى حديث عن تأمين المناخ المؤاتي والتجهيزات الفخمة وصالات الرياضة وأحواض السباحة وملاعب التنس وتسهيلات الدفع والمواصلات المجانية والهدايا والعروض الاستعراضية.
فالأصل أن تكون التجهيزات والتسهيلات المتوافرة في الخدمة الاستهلاكية مقصودة لذاتها وللراحة أو المتعة التي توفرها للطالب والمعلم، فنجد أن هذه التجهيزات في المدرسة مثلا «لا تشترى لذاتها أي للمتعة أو الراحة فقط التي تقدمها بمفردها لمستخدميها، بل لما يفترض أن تسمح به ضمن منظومة البيئة المدرسية الكاملة، من تحسين في العملية التربوية (أداء المعلم واستيعاب المتعلم). وبالطبع، المقصود بالخدمة التربوية هنا، الفعل التربوي الذي يمارسه المعلم والمتعلم في بيئة مؤاتية، أي السلوك الذي ينفذه كل من المعلم والمتعلم في مناخ مدرسي مهيأ على الاستزادة من التعلم والتبحر في المعرفة، والقادر على إنتاج ردود فعل مرغوبة عند كل منهما، فضلا عن التأثير على مقارباتهما المعرفية والقيمية والفكرية والاجتماعيـة وأنماط تفاعلهما المستقبلي مع بعضهما ضمن إطار البيئة المدرسية المتوفرة. ولاشك أن التجهيزات الحديثة والمريحة تشكل تسهيلات مهمة توفر على المعلم والمتعلم. وبالتالي على المدرسة بذل الجهود للوصول إلى ما يرمون إليه من الجودة والتميز. ولكن ينبغي ألا ننسى أيضا أن التجهيزات الكثيرة والتكنولوجيا الحديثة تسحب في الغالب من المدرسة فرص الإفادة من فضائل العمل الحرفي وتضعهم في سكة العمل الجاهز المتكرر أو الأوتوماتيكي أو التسلسلي. أي أنها تدفعهم عاجلا أم آجلا إلى تبني منطق الوجبات المعرفية الجاهزة السريعة، فهل هذا هو المطلوب؟ وكم طالباً يجيد اليوم قسمة الأعداد العشرية دون استخدام الآلة الحاسبة؟ ثم لو كانت البيئة المدرسية ذات المواصفات المطلوبة، أو ما يسمى كذلك، تضمن نتائج عالية، لما كنا بحاجة إلى اختبارات ومباريات، أو لكانت بعض المدارس احتلت المراتب الأولى في جميع الاختبارات وفي جميع المواد الدراسية، التي درجت مؤسسات التقويم المدرسية على اختبارها، مـع العلـم أن نتائج الاختبارات الأكثر حداثة لا تؤكد هذه الفرضية أو الادعاء. فالجودة في نهاية التحليل هي ثقافة تنفذ إلى السلوك والمواقف وليست تحقيق شروط فقط. والجودة مفهوم مركب يكره الغموض وليست الجودة مفهوما غيبيا، ولكنها ليست أيضا مفهوما حسيا يمكن التقاطه ببساطة، وقياسه بسهولة كما يحلو لبعضهم أن يشيع. فلم يحدث أن تدلت الجودة من السماء مستقلة بنفسها، وهبطت في فضاء بكر لم يدنسه فكر بشري مصلحي، ولم تلطخ نقاءه أية حسابات تكتيكية أو استراتيجية. كما لم يسبق أن نبتت الجودة من العدم مقنعة بعباءة النبل والسمو ومنعتقة من أي تاريخ تنافسي. لذلك، ولأسباب أخرى كثيرة يصعب الحديث عن الجودة الفعلية الحقيقية خارج نطاق الكيان الواحد. أي عند الخروج من دائرة العنصر المفرد إلى فضاء الجماعة التعددية. فمع الجماعة التي لا تكون عناصرها في العادة نسخا طبق الأصل من بعضها يستحيل الحديث عن جودة عامة، لأن منطق الجودة يفرض في الحد الأدنى من شروط اتساقه الداخلي بأن تكون درجات «الدودة» موزعة بالتعادل (متوازنة الانتشار) على مختلف مكونات الكيان الموصوف أو المزمع وسمه بالجودة.
فإذا كانت الطقوس المؤسسية قد أرست ممارسات ومناخات محفزة على إنتاج الجودة أو منتجة منها، يمكن القول بوجود ثقافة الجودة في المدرسة، أما عكس ذلك فيعيق تحقيق أي جودة من أي نوع، وترتهن درجة الجودة التي تميز إنتاج مدرسة دون أخرى بأنماط السلوك والمواقف والمقاربات التي قاومت الزمن واستمرت فعالة في المدرسة ومنها مثلا: دينامية التحفيز (المنافسة، الثواب والعقاب، التحدي، التشجيع، هامش قبول المبادرات، آليات التثمين والتبخيس، وسائل الترغيب والترهيب…)، والموقف من المعرفة، كما سبق أن رأينا أعلاه.
(هل الجودة ناجزة ونهائية ومقفلة أم هي متحركة ومتطورة ومرنة ومنفتحة على التجديد؟) وتستفيد من كل عناصر مجتمع المعرفة (التكنولوجيا، المكتبة، المختبرات، فسحات النشر وتبادل الرأي، الربط بالشبكات الدولية، المجتمع المحلي) وطقوس المؤسسة التربوية (العادات والأفعال المتكررة والدورية، السلوك الإثرائي، نوافذ التجديد، صنوف المقاومة للجديد، السمات والأفعال التي صنعت عبر السنوات هوية المؤسسة وميزتها عن غيرها، أي العلامات الفارقة التي تميز ملامح خريجيها)
كما يدخل في تحديد درجة الجودة، من بين عناصر أخرى تكون عراقتها الثقل الذي يمثله الفكر التربوي في المدرسة مقابل الفكر الإداري التنظيمي البحت. ومع اعترافنا الكامل بأهمية الجانب الإداري في دورة عمل المدرسة إلا أننا نحذر من طغيانه على اهتمامات طاقم المدرسة إلى درجة أكاد أقول معها إنه يتحول في كثير من الأحيان إلى هدف لذاته وينسى أصحابه أن العمل الإداري في المدرسة يجب أن يكون دوما في خدمة الفعل التربوي.
وأخيرا نختم مقالنا هذا وبعد هذا السرد التوضيحي وإلقاء الضوء والتركيز على التفاصيل والتعمق في أمر ماهية الجودة ووسائل تنفيذها ميدانيا وعلى أرض الواقع، نؤكد مرة تلو الأخرى أن تطبيقها في كل مراحل التعليم والتعلم عبر هذا الفهم، أصبح ضرورة لا غنى عنها لكل باحث عن النجاح، من أجل مواكبة خطوات التطور والتميز الذي أصبح هدفاً استراتيجياً للجميع، وبالله التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..